القناعة والشماعة الفاشلة

القناعة شماعة الفشل: قراءة نقدية في المفهوم وسياقات التوظيف

مقدمة

في مجتمعاتنا العربية، كثيراً ما تتردد مقولات ذات طابع حكمي مثل “القناعة كنز لا يفنى”، أو “ارضَ بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس”، وهي تعبيرات تنطوي في ظاهرها على قيم روحية وأخلاقية عالية تدعو إلى الرضا والسكينة والبعد عن الطمع. إلا أن الواقع يكشف عن مفارقة عميقة حين تتحول هذه الأقوال إلى مبررات للاستكانة والجمود ورفض التغيير. حينئذ، تصبح “القناعة” ليست فضيلة وإنما شماعة نعلق عليها فشلنا، نغلف بها عجزنا عن تحقيق طموحاتنا، ونهرب من مواجهة صعوبات الحياة تحت عباءة الرضا الزائف.

المفهوم المزدوج للقناعة

القناعة في أصلها قيمة سامية ترتبط بالرضا النفسي والاتزان العاطفي والتواضع. وهي من المفاهيم التي لها جذور في الأديان والفلسفات كافة، إذ تدعو إلى الزهد والابتعاد عن الطمع وتقدير النعم الصغيرة. غير أن هذا المفهوم، الذي يُفترض أن يُستخدم لضبط الشهوات وتوجيه الإنسان نحو سلوك أخلاقي، تم تحريفه في الوعي الجمعي المعاصر ليتحول إلى أداة تبريرية للفشل، وتفسير كسول لانعدام الطموح.

في هذا السياق، أصبحت القناعة وسيلة لتجميل الفقر، وشرعنة التخلف، وتبرير السكون في وجه التحديات. ولم يعد من الغريب أن نجد شخصاً يرفض السعي لتحسين وضعه المهني أو العلمي أو الاجتماعي، ويكتفي بالقول: “أنا قنوع بما لدي”، بينما هو في واقع الأمر غير راضٍ، بل غارق في الإحباط والانهزامية.

كيف تتحول القناعة إلى عائق؟

ثمة مراحل نفسية وفكرية تساهم في تحول القناعة من قيمة إيجابية إلى أداة للتراجع، وهي:

1. تحوير المعنى: يبدأ الأمر بإعادة تعريف القناعة بما يتماشى مع الراحة النفسية المؤقتة، فيتم تصوير الرضا بالموجود كقمة الطموح، مهما كانت الظروف قاسية أو الإمكانيات محدودة.

2. تسويق الانهزام كفضيلة: عبر الإعلام والتعليم والثقافة الشعبية، يُزرع في الأذهان أن “الطموح الزائد” مذموم، وأن التطلع للمزيد “جشع”، بينما “الزاهد” و”القنوع” هم المثال الأعلى.

3. الهروب من المسؤولية: يستخدم البعض القناعة للهروب من المسؤولية، وتبرير التقاعس، وتجنب المغامرة والمخاطرة، لأن كل محاولة فشل جديدة تعني مواجهة الذات ومواجهة المجتمع، وهو أمر مؤلم.

4. الاستسلام للظروف: القناعة في هذه الحالة تصبح بمثابة استسلام ضمني للواقع، إذ يختبئ المرء خلفها حتى لا يُضطر لتغيير نفسه أو تطوير مهاراته أو مواجهة عوائق الحياة بشجاعة.

جدلية الطموح والقناعة

ثمة علاقة معقدة بين الطموح والقناعة، حيث لا يُفترض أن يكونا متناقضين بالضرورة، لكن التوظيف غير الواعي لهما يؤدي إلى هذا التناقض المفتعل. فالقناعة الحقيقية لا تعني أبداً أن يُطفئ الإنسان جذوة الطموح داخله، بل تعني أن يوازن بين الطموح والرضا، بين السعي لتطوير الذات والشكر على ما لديه. أما الطموح المفرط فقد يتحول إلى جشع مرضي، كما أن القناعة المطلقة قد تتحول إلى تواكل.

والجدير بالذكر أن المجتمعات المتقدمة، لم تبنَ على ثقافة القناعة السلبية، بل على ثقافة السعي والتحدي وعدم الرضوخ للواقع. في اليابان مثلاً، تعتبر الثقافة العمالية مرتكزة على التطوير المستمر (Kaizen)، وهو مفهوم يعارض التراخي والرضا بالحد الأدنى من الأداء.

أثر القناعة المفرطة على الفرد والمجتمع

من الآثار السلبية التي تنجم عن استخدام القناعة كشماعة للفشل:

1. انخفاض الدافعية: عندما يقتنع الفرد أنه لا جدوى من السعي، يفقد أي دافع للتحسين أو التطوير، سواء على المستوى الشخصي أو المهني.

2. جمود المجتمعات: القناعة السلبية تخلق مجتمعات ساكنة، لا تطمح للتغيير ولا تسعى لإصلاح نفسها، وتصبح بيئة خصبة للفساد والفقر والتخلف.

3. انتشار ثقافة التبرير: تُصبح القناعة وسيلة لتبرير كل فشل أو تقاعس، بدلاً من التفكير النقدي في أسباب الفشل والعمل على تداركه.

4. قتل الإبداع والابتكار: من المستحيل أن يبدع إنسان قنوع بشكل سلبي، لأن الإبداع يتطلب طموحًا للخروج من المألوف، والسعي لتجاوز القيود.

دور التربية والتعليم في ترسيخ المفهوم الصحيح للقناعة

التربية والتعليم لهما دور مركزي في غرس مفاهيم متوازنة حول القناعة. فالمناهج الدراسية، والخطاب التربوي في البيت والمدرسة، يجب أن تميز بين القناعة كقيمة إيجابية وبين الاستكانة كظاهرة مرضية. على المدرسة أن تعلم الطفل كيف يكون طموحاً شاكراً، يسعى للتقدم ويقدر ما يملكه في آنٍ واحد.

كما أن التوجيه المهني والجامعي يجب أن يُبنى على أسس تحفيزية لا تكرس فكرة أن الفشل أمر طبيعي يمكن تغطيته بستار القناعة، بل يجب ربط الإنجاز بالعمل الجاد والمثابرة والتخطيط الاستراتيجي.

مقارنة بين مفهومي القناعة الإيجابية والقناعة السلبية

نماذج ملهمة تتجاوز القناعة السلبية

عبر التاريخ الحديث، قدمت سير عدد من الأفراد دروسًا عملية في تجاوز القناعة السلبية وتحدي الواقع. فستيف جوبز، مؤسس “أبل”، لم يكن راضياً عن حدود التكنولوجيا المتاحة في زمانه، ولم يقل “أنا قنوع بالحال”، بل سعى لتجاوزها والابتكار. كذلك الحال مع توماس إديسون الذي لم يرضَ بالفشل رغم آلاف التجارب غير الناجحة، بل ظل يسعى حتى اخترع المصباح الكهربائي.

ومن البيئة العربية، يمكن استحضار تجربة أحمد زويل الذي لم يرضَ بواقع البحث العلمي في وطنه الأم، فهاجر وسعى وحصل على جائزة نوبل في الكيمياء.

الإعلام والرسائل الموجهة حول القناعة

وسائل الإعلام تلعب دورًا خطيرًا في توجيه الرأي العام نحو فهم خاطئ للقناعة. فبرامج المسابقات والترفيه كثيرًا ما تحتفي بمن “يرضى” بحظه التعيس، وتُلمّع صور من ينسحب مبكرًا من المنافسة بـ”ابتسامة قانعة”، بينما في الحقيقة يُصدّر الإعلام رسالة مفادها: “لا تحاول كثيراً، ارضَ بأي شيء”.

يجب أن يتحول الإعلام إلى وسيلة لنقل ثقافة الطموح النبيل، لا أن يكون وسيلة لتخدير العقول باسم القيم الروحية، لأن قيمة مثل القناعة لا يصح أن تُوظف كأداة لقمع الطموح الفردي والجماعي.

الحل: كيف نُعيد للقناعة معناها الأصيل؟

• التفريق بين الرضا والتواكل: من الضروري أن نُرسّخ في الثقافة العامة أن الرضا لا يعني الجمود، وأن التوكل لا يعني التواكل.

• تعزيز ثقافة الطموح الواقعي: يجب تشجيع الأفراد على الطموح المدروس القائم على التخطيط والعمل، لا الطموح المتوهم.

• إعادة إنتاج الموروث الثقافي: على المثقفين والعلماء والكتّاب إعادة قراءة الأمثال الشعبية والحكم المتداولة، وتصحيح المفاهيم المغلوطة منها.

• تشجيع النماذج الصاعدة: عرض قصص نجاح من البيئة المحلية تُظهر كيف تجاوز أصحابها العقبات ورفضوا الاستسلام تحت شعار القناعة.

• ربط الإنجاز بالقيمة: تعزيز فكرة أن السعي لتحقيق الذات هو نوع من العبادة والإسهام في الخير العام، وليس فقط نزعة أنانية.

خاتمة

إن المفارقة في تعاملنا مع مفهوم القناعة تكمن في تحويلها من فضيلة إلى مبرر للضعف. القناعة الحقيقية يجب أن تعزز من داخلنا روح الامتنان دون أن تكسر فينا الحلم. أما حين تتحول إلى شماعة نعلق عليها فشلنا، فإنها تفقد معناها النبيل، وتصبح أداة لتكريس التخلف. على المجتمعات التي تسعى للتقدم أن تعيد النظر في القيم التي تروج لها، وأن تُربي أبناءها على الطموح المسؤول لا القناعة المفرطة. فالحياة لا تمنح النجاح لمن يرضى بالحد الأدنى، بل لمن يرفض أن يكون فاشلاً، حتى وإن غلف الفشل برداء القناعة.

المراجع:

1. عبد الكريم بكار، “تكوين المفكر”، دار المعرفة، 2006.

2. ستيفن كوفي، “العادات السبع للناس الأكثر فعالية”، مكتبة جرير، 2012.